...

السلحفاة الظافرة

إن السلحفاة مخلوق ذكي، إن عليها أن تستفيد من ذكائها حتى تنجح في الحياة.. ذلك إنها تملك قوة الأسد أو سرعة الأرنب.. ورغم ذلك فإن هذا الذكاء لا يجعل منها مخلوقا يألفه الناس ويرجع سبب ذلك إلى أنها تميل إلى الاعتزاز بنفسها شيئا قليلا.

 

ولفترة طويلة كانت قد استثارت الفيل فأصابه الانزعاج وفقد اعصابه يوما ما فصاح:

 

_ هل تظنين أنك غاية في البراعة ؟.. إن كان الأمر قتالا منصفا بيني وبينك فإنني سأنتصر في كل مرة.

 

وتسخر منه:

 

_ هل تعتقد ذلك؟

 

ويقول الفيل:

 

 _ أعلم ذلك..

 

ثم ينتزع بخرطومه جذع شجرة ويحطمه كما لو كان عود ثقاب ليبين لها ما يستطيع أن يفعل، وتبتعد السلحفاة قليلا وترقب هذا الأداء المسرحي ولكنها لم تتأثر كثيرا بما فعل فتقول له فتقول له في هدوء:

 

_ أعتقد أنك سوف تجد نفسك مخطئا.. ومع ذلك إن شئت فلنحاول.

 

ويقول الفيل:

 

_ تعنين انك سوف تنازلينني؟

 

_ بالضبط.. عودنا باكرا فجرا فجرا وعلى شاطئ النهر.

 

ويسأل الفيل في ارتياب:

 

_ ولم يكون شاطئ النهر؟

 

لأن الأرض هناك مهدا وقريبة من المكان الذي أعيش فيه، ولأنك انت البادي بالأمر فإن من حقي _ على الأقل_ ان أختار المكان.

 

ويوافق الفيل على الرأي قائلا:

 

_ إن النهر مكان خليق بالراحة التي ينشدها الجسم.

 

وتعلق السلحفاة على قوله:

 

_ أرجو أن لا يغرق جسمك النهر.

 

ويدير الفيل رأسه ويمضي محدثا دويا عاليا ويهتز جسمه من فرط الضحك حتى تسيل دموعه على خديه ويشهق أخيرا:

 

_ آه.. انصرفي قبل أن أموت من الضحك.

 

وتتحرك السلحفاة بخطوات وئيدة كما تعودت وتقول مذعورة:

 

_ سنضحك يا بني وأنت على الجانب الآخر من وجهك.

 

وبينما هي تسير إذا بها تلحظ بسمات ترتسم على وجوه بعض الحيوانات التي كانت تستمع إلى حديث لقائها مع الفيل، لكنها كانت تنظر إليها في ازدراء.. ذلك التعبير الذي كان من اليسير أن تنتحل وهو أمر في الغالب ملحوظ بالنسبة للسلحفاة.. وتتخذ طريقها الى شاطئ النهر فترى فرس البحر يتمرغ مسترخيا في الطين، إن فرس البحر حيوان غير ألوف إن تركه الناس وحده فهو يتركهم وحدهم وإن كان ثم محاولة لاستشارته انقلب _في الواقع_ حيوانا سيء الطباع.

 

وتقول السلحفاة في خنخنة:

 

_ كيف تتحمل التمرغ في مثل هذا الطين القذر الكره الرائحة.

 

ويزمجر فرس البحر:

 

_ أحبه.. إن أسري اعتادت أن تأخذ دائما حمامات الطين.

 

وتقول السلحفاة:

 

_ أعتقد أنها عادة قذرة تماما.

 

ويصيح الفرس:

 

_ إن أحدا لم يسألك ماذا تعتقدين أن أحدا لم يطلب منك المجيء إلى هنا أيضا.

 

_ إن من حقي المجيء إلى هنا كما تفعل انت.

 

_ إذن صه واحفظي عليك لسانك ساكنا في حلقك.

 

_أنت تعلم أن أخلاقك تحتاج إلى مزيد من الصقل.. إنه لمن المؤسف إنك جوهرة فجة.. وسأحاول في الواقع أن أصنع منها شيئا.

 

وينتفض فرس البحر من الطين في قوة جبارة ويرد عليها وعيناه تلمعان غضبا وحنقا:

 

_أحقا ما تقولين؟ إنني لا أرى إنك على خلق.. في الواقع أريد أن ألقنك درسا أو درسين.

 

وتتساءل السلحفاة في هدوء:

 

_ أتتوعدني؟

 

ويرد فرس البحر وقد أستعد أن يخوض في الطين حتى يصل إليها:

 

_ثمة ما تشائين إني قادم لألقنك درسا.

 

_قف.. انني لا أؤمن بعمل فيه خشونة وتهور، إن أردت قتالا فليكن ذلك بطريقة لائقة.

 

سألقاك هنا مع مطلع فجر اليوم الالي وسترى أينا أقوى رجلا.

 

ويطلق فرس البحر ضحكة مريرة:

 

_ممتاز.. ليس شيئا أليق لي من هذا.. إنه وقت جميل ورطب لا تنسى ان تأتي.

 

_ بالتأكيد لن أنسى.

 

وتسعى السلحفاة وقد ارتسمت على وجهها دلائل الرضا الشديد كما ينبغي في الواقع أن تكون ذلك، إن المؤامرة التي دبرتها كانت محبوكة تماما.

 

وتستشرى أنباء الصراع القائم بين الفيل والسلحفاة ولكن أحدا لا يعلم ما أعد من ترتيبات للمعركة الثانية.. ذلك إن فرس البحر كان لا يألف أحدا ولا يتحدث مع غيره، وكانت السلحفاة على بينة من هذه الحقيقة تماما. لقد كانت هذه الحقيقة جز مهما في مؤامرتها.

 

وقبل مطلع الفجر بقليل تصحو السلحفاة من نومها على شاطئ النهر، وتسعى وسط الضباب فتشاهد الفيل أمامها يسير متثاقلا وقد ضربت من حوله حلقة كبيرة من أصحابه الذين جاءوا لمشاهدة هذه المعركة.

 

وتنظر السلحفاة في النهر فترى فرس البحر وقد أستلقى مترقبا وحين يسمع أصوات الجميع مقترب ينتصب واقفا ساكنا بحيث يتعذر على أحد أن يكتشف مكانه وسط الضباب _لقد كانت هذه هي الطريقة التي أرادت السلحفاة للأمور أن تسير عليها.. وتتحرك في حذر متحصنة بين الأعشاب وترقب حتى يقترب الفيل من الشاطئ ويقهقه:

 

_ها.. هكذا لم يصل صديقي المقدام حتى الآن.. إنني لأتساءل إذا كان قد تدبر الأمر جيدا.

 

وفي اللحظة التي يجتاز فيها الفيل البقعة التي كانت السلحفاة قد أختفت تماما تمسك بطرف خرطومه.. ويدهش الفيل أشد الدهشة، ويتألم أشد الألم حتى يصبح في الحال عاجزا.. وفي هذه اللحظة الدقيقة الحرجة تقذف السلحفاة بنفسها على شاطئ النهر في أتجاه فرس البحر الذي كان طبيعيا يحاول الإمساك بعدوه المهاجم إلا أن يقبض في اضطراب على خرطوم الفيل   

 

بينما تلوى السلحفاة منطلقة ثم ترتمي في الطين.

 

ويسحب فرس البحر الفيل على الشاطئ في جذبه خشنة وراح الاثنان يدق أحدهما عنق الأخر ويقف الجمع الذي لا يدرك ما حدث مشدوها لتلك القوة الخارقة التي تقمصت السلحفاة والتي كانت في الواقع تتخذ مكانها أمنة مطمئنة على مسافة من الشاطئ ترقب الصراع الجبار بين الفيل وفرس البحر، وقد أصيبا أصابات بالغة وظلا يتصارعان حتى النهاية قبل أن يكتشفا ما قد وقع، وينسحبا إلى الشاطئ مضرجين بالدماء وقد أنهكهما التعب ويتساءل الفيل:

 

_ بربك قل لي ما حدا بك على أن تهاجمني؟

 

ويحاول فرس البحر أن يشرح له ويثور أشد الثورة، ويدرك الفيل وفرس البحر في غمرة من الشرح المستفيض المضطرب _وبينما كان كل متفرج قد اشتبك في صراع مع غيره_ أن السلحفاة قد اصطنعت حيلة ماكرة للوقيعة بينهما.

 

   ويعتذر كل منهما للأخر ويتفرقان بعد أن تعهدا ألا يتورطا مع السلحفاة المخادعة في جدال مرة أخرى، وينتهي المتفرجون إلى نفس النتيجة، ومن أجل هذا فقد تركت السلحفاة في عزلة قاسية لا يجرؤ حيوان على مهاجمتها، بل إنهم ليحرصون جميعا أشد الحرص على العيش معها في وئام وسلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*. الحسيني, د. الحسيني معّدى, الاساطير الافريقية ,ط2, 2014م :ص200.