...

صياد السمك

   في بعض الأصقاع من أفريقية يكسب الناس قوت يومهم عن طريق صيد الأسماك في الأنهار العميقة، زعموا أن أخوين تركا منزلهما في الغابة وأخذا يسيحان حتى أتيا مكانا وجدا فيه صيدا كثيرا من الأسماك، ويحب الاخوان هذه الحياة ويقرران أن يستقرا في هذا المكان، وأن يتعلما صيد السمك.. وتربطهما الصداقة فيما بعد برجل عجوز وابنته.. كانا يعيشان بالقرب من هذا المكان وكانت الفتاة الجميلة دائبة في عملها ويقع أخيرا الاخوان في عشقها إلا أن الفتاة لم تستطع أن تقرر أيهما تتزوج ولكن جدتها تقول لها ناصحة:

  _تزوجي با فضلهما صيدا للأسماك.. كلا الشابين غريب عنا ولا نعرف عنهما إلا القليل.. أنظري أيهما يصطاد أكثر من غيره سمكا خلال الأسابيع القادمة.. أتركى كلا منهما يبحر ليصطاد وحده دون أن يساعده أحد وبعدها نستطيع أن نرى أيهما يفضل الأخر.

 وتفكر الفتاة في الأمر مليا وترى أن الخطة على الأقل قد تمنحها الوقت لكي تقرر أيهما تحب أكثر من الأخر، ذلك أن كلا من الشابين كانا على درجة من الوسامة والمهارة بحيث لا تستطيع أن تختار أيهما وتخبر أباها بما اقترحته جدتها ويخبر الوالد الشابين بأن أبنته سوف تتزوج أفضلهما صيدا للأسماك.

كان أكبرهما يدعى (سوكي) اما أصغرهما فكان يدعى (كانا) ويتفقان على أن رأي الفتاة سليم إلى درجة كبيرة، وانهما سوف يبذلان جهدهما في صيد أكثر ما يمكن من السمك.. وفي الصباح يتخذ كل منهما طريقا في البحر مختلفا عن الأخر، ويعود (كانا) في منتصف النهار بصيد رائع من الأسماك.

فتسأله الجدة:

_هل أديت صيدك في يومك هذا؟

ويجيبها(كانا):

_نعم.

_هل قطعت لي بعض الأخشاب.

ويقول (كانا):

_بالتأكيد.. سوف أحاول أن يكون لدي وقت لذلك.

وينطلق (كانا) ليقطع الخشب ويؤدي بعض الأعمال الأخرى حتى تخف الحرارة اللافحة ويعود(سوكي) في المساء مكدودا كما يبدو عليه ومعه حمل وفير من السمك ويقول والد الفتاة:

_لقد أضعت يوما بأكمله.

_هذه هي الطريقة التي أعمل بها.

وتتوالى الأيام ويعود (كانا) مبكرا ومعه حمل من السمك ويعود (سوكي)متأخرا يحمل آخر وكان يبدو مكدودا دائما بعد يوم طويل من العمل بينما يبدو(كانا) نشيطا مرحا، ويقول الأب:

_حسن.. أنه من اليسير أن نقول أيكما أحسن عملا، إن (كانا) يخصص ساعات قليلة للعمل مثله في ذلك مثل الفراشة التي لا تستطيع أن تبقى في مكان واحد ردحا طويلا من الوقت. إن (سوكي) هو العامل الحقيقي

وتعلق الفتاة:

_أنظر كيف أن (كانا) يساعد غيره، إن (سوكي) يقوم بعمله صيادا فحسب.

ويقول الأب مؤكدا:

_هذا ما ينبغي أن يكون. أن (سوكي) مثال للعامل المثابر الثابت.

وتحتج الفتاة:

_لكنه لا يصيد أسماكا أوفر عددا من (كانا).

ويجيبها الأب:

_إن الشاب المسكين لسيء الحظ، إنه يضطرب كثيرا فيفزع السمك منه، فإذا ما تزوجت منه فستجدين نصيبه من السمك قد تضاعف.

وفي هذه الاثناء تستيقن الفتاة أنها تؤثر (كانا) زوجا لها أذ رأت فيه أكثر مما رأت في (سوكي)ولكنها كانت تضطرب أشد الاضطراب حين يبدو(كانا)كسولا طائشا بالقياس إلى أخيه.. وذات يوم يصل (كانا)مبكرا كما أعتاد أن يفعل وتقرر الفتاة أن تتحدث معه فتقول له:

_إنك لتعلم أنني أتوقع منك عملا متواصلا حتى أرضى بك زوجا.

_إنني أعمل كما تعودت أن أعمل، إنك بالتأكيد لا تحبين أن أخدعك بجهود زائفة أقوم بها.

_ لا أعني ذلك، ولكن لماذا لا تمكث أكثر مما تمكث لكي تعود حاملا مزيدا من السمك.

ويقول (كانا)

_إنني أعود دائما ومعي حمل كامل، وإن مجيئي بأكثر منه جهدا ضائع لا فائدة منه.

كان حديثه معها مقبولا ولكن الفتاة لم تكن لتقتنع به.

_إن أبي يعتقد أن (سوكي) أفضل منك عملا.

ويتساءل (كانا)

_وما رأيك أنت فيما يقول؟

فتجيب الفتاة:

_أخشى أن يكون ذلك هو الحق.

ويقبل (سوكي) مكدودا يائسا ويشغل كل واحد من حوله ليعد له الطعام، ويرى أنه يقضي المساء في دعة، بينما يشارك (كانا) الناس في الرقص والغناء حول النار وينزعج الأب لهذا أكثر مما كان من قبل فيقول لأبنته:

_ حسن.. إنني لمسرور أن وضعت هذين الرجلين موضع الاختبار ولم أستغرق وقتا طويلا لأستوثق أيهما يفضل الأخر.. عندما ينتهي الحصاد فسوف تتزوجين (سوكي).

وتغضب الفتاة لأنها كانت تحس أن (كانا) يعمل القليل من أجلها، فإن كان راغبا حقا في الزواج منها، فقد كان عليه بالتأكيد أن يواصل العمل أكثر مما يعمل ليثبت أنه أحسن العاملين أنها لا ترغب في الزواج من (سوكي).

وإذا هي تحاور جدتها:

_هذا جميل أبي.. ولكنني لا أظن أن زواجا من رجل يعمل من الصباح حتى المساء ثم يأوي إلى داره مكدودا لا يقوى على التحدث أو الغناء يمكن أن يكون مصدر سكينة وسرور.

ولكن جدتها تسألها:

_ إذا أنت في الواقع ترغبين في الزواج من (كانا).

وترد الفتاة في عجلة:

_بالطبع لا.. إنه يظهرني بمظهر مضحك.

وتخفي جدنها بسمة بدرت منها وتمسك عن الكلام في هذا الأمر ولكنها في صباح اليوم التالي وبعد أن ينصرف الرجلان إلى الصيد كما اعتادا كل يوم تعرض عليها اقتراحا.

_ لماذا لا تزورين (سوكي) إنه شيء يبعث على السأم أن يبقى طيلة اليوم وحده، احملي إليه بعض الطعام واذهبي إليه لعل ذلك يتيح لك فرصة أفضل للتعرف عليه، ليكن تسالك إليه ضربا من المفاجأة اللطيفة له وقد تجدين فيه شخصا يختلف عما تظنين.

لم تكن الفتاة راغبة في القيام بهذه المحاولة أولا، ولكنها عقدت العزم على الذهاب وقد بلغ منها الجهد في التفكير في الأمر حدا جعلها تشعر أن من الخير ان تفعل شيئا.. لذلك فهي تلف بعض الطعام ثم تنطلق إلى المكان الذي يسعى(سوكي) للصيد فيه، كان الطقس شديد الحرارة وكانت النفس تضيق به، وكانت تشعر بالأسف ان تقوم بمثل هذه المهمة ولكنها تواصل السير، فترى من بعيد نهرا وتقبل في دعة وهدوء إلى البقعة التي توقع أن تجد (سوكي) يصطاد السمك، وتصيبها الدهشة حين تلمح بعض الشباك ملقاة على الأرض وتنظر مرة أخرى فتشاهد شبحا نائما تحت الشجرة فتأخذها الدهشة ولكنها تظن أن (سوكي) قد أستلقى لينال قسطا يسيرا من الراحة فتأوي إلى الظل لتستريح كذلك وتمضي الساعات ويصحو(سوكي) من نومه أحيانا ثم يتثاءب ويتمطى أحيانا أخرى، وينظر إلى الشمس ثم يروح في نومه مرة أخرى، وأخيرا يفيق عندما يميل قرص الشمس بعد الظهيرة ويسعى إلى شباكه ويبدأ الصيد، وتقف الفتاة على قدميها دون أن تنطق بكلمة واحدة وتتسلل راجعة من حيث أتت، وتعود إلى الدار حيث كانت جدتها تراقب مجيئها وتألها:

_ هل فاجأت(سوكي).

وتجيب الفتاة:

_ لم أقترب منه إطلاقا.. أرجو ألا تقولي شيئا.

ويعود(سوكي) إلى الدار متأخرا قليلا ويبدو كما هي العادة_ مكدودا ومعه حمل ثقيل من السمك.

أما (كانا) الذي عاد من عمله من ساعات بعد ان أدى أعمالا مختلفة عجيبة فلم يبد تعليقا.

وتسأل الفتاة (سوكي):

_هل قضيت يوما شاقا يا (سوكي)؟

ويومئ سوكي برأسه موافقا.

_إن حياة الصياد ليست هينة، لم يكن حظي مثل حظ (كانا).

ولكن الفتاة تقول وهي تنصرف عنه:

_إنني لأتساءل أهو حقا الحظ؟

وتغضب الفتاة من الطريقة التي كان (سوكي) يخدعهم بها وتصمم على أن تفضح أمره لكسله ونفاقه وتخبر جدتها في اليوم التالي، بأنها سوف تزور (سوكي) في الحقيقة وتعد الطعام مرة أخرى وتنطلق إليه وتتسلل ثانية إلى البقعة التي يصطاد فيها، ومرة أخرى تشاهد (سوكي) يغط تحت الشجرة بينما تمتد شباكه في استرخاء وتعود إلى جدتها وتخبرها الحقيقة وتقول:

_ أريد منكما_ أنت وأبي _ أن تذهبا معي فتشاهدا بنفسيكما فينتهي هذا الزعم.

ويصغي الأب إلى القصة ولا يستطيع تصديقا، ويلح في أن يلتمس لموقفه تفسيرا، ولكن الفتاة تذكره بأنها قد راقبت (سوكي) ساعات في اليوم الذي انقضى وأنه لم يؤدي عملا ما.

ويقترح الأب:

_ربما كان يشكو المرض.

وتقول الفتاة في تهكم:

_ولهذا فقد تناول عشاء خفيفا مما يأكل المرضى.

_لا أحب مع ذلك.. التجسس عليه.

وترد الفتاة عليه:

هراء.. إنه ظل يخدعنا أسابيع.. هيا بنا.

وتتقدمهما إلى الغابة حتى إذا تراءى النهر لهم تشير الفتاة اليهما الفتاة بالسير على مهل وحذر وينظرون من خلال أغصان الأشجار فتتراءى لهم تلك الصورة التي بدت للفتاة ومن قبل: الشباك ملقاة على شاطئ النهر (وسوكي) يغط في نومه.

وتهمس الفتاة:

_ماذا أقول لكما؟

ويقول الأب محتجا:

إن الرجل لخليق بأن ينال قسطا من الراحة.

ولكن الفتاة تقول:

_لقد كان يستريح منذ مطلع الصبح وسيظل في راحته حتى الظهيرة إذا ما كان لكما أن تراقباه.

وتطلب الفتاة من الآخرين الرقود والانتظار، وكلما تغفو عيونهما توقظهما الفتاة مرة أخرى ومع ذلك فلم يغير هذا الموقف من حدة شعورهما، وإن كانت قد صممت على أن يعرفا كيف ان (سوكي) كان يخدعهم جميعا.

ويصحو (سوكي) بعد عدة ساعات وينظر حوله إلى الشمس ثم يدلف إلى عمله فيجمع بعض السمك من شباكه، ويجد أن حمله قد أصبح _إلى حد ما_ ثقيلا فيقذف ببعض السمك في النهر ويأخذ طريقه إلى القرية في خطى وئيدة، ويسرع الثلاثة عائدين إلى الديار من طريق جانبي قبل أن يصل (سوكي) ويعدون النار فإذا به يصل إلى القرية ويلقي بنفسه متهالكا وتقول له الجدة:

_أرجو أن تحضر لي بعض الحطب وقودا للنار يا (سوكي).

ويتنهد سوكي:

_لقد لقيت في يومي عملا شاقا.. لا يقوى عليه (كانا).

ويقول (كانا):

_ها هو الحطب.

ويلقي به (كانا) امامها على الأرض.

وبعد العشاء يصرح الأب أن لديه حديثا يريد أن يقوله:

_لقد كنتما تصيدان السمك لأسابيع أنقضت إنني لأشعر أن الوقت قد حان لكي أعطي كلمة القبول لمن يتزوج أبنتي.

وتلوح ابتسامة على ثغر (سوكي) وينظر إلى (كانا) في نشوة الظفر وإن كان يتظاهر بالتواضع.

_ أخشى أن تجدوا ان قراركم النهائي عسير.. إنني أعلم أن أخي لا يصمد في عمله كما يجب ولكنه سريع وماهر، وعلى العكس إنني لا أدعي لنفسي المهارة ولكنني أحب أن أؤدي عملي إلى نهايته وأن أستمر فيه حتى أنجزه.

وتصيح الفتاة في غضب:

_غش.

ويرمقها (سوكي)في دهشة:

_ماذا تعنين بهذا؟

_أقصد أنني لا أريد أن أتزوج منك برغم هذا.. إنني بعدما شاهدتك بالأمس واليوم أوقن تماما أنك رجل كسول ومخادع كذلك، فقد ذهبت لزيارتك أمس.

وتقول الجدة في شيء من الدهاء:

_ذهبت لتقدم إليك مفاجأة.

وتستأنف الفتاة الحديث:

_إنني أنا من تلقيت المفاجأة.. ذلك أنني شاهدتك تنام طيلة اليوم تقريبا وأنك تعمل ساعة من النهار أو ما يقارب من ذلك وبعدها تعود مدعيا أنك متعب.

ويستغرب منها ذلك فيقول:

_كيف تقولين مثل هذا، لو صدق أبوك وجدتك هذه القصة لكان أمرا نكرا.

وتقول الجدة:

لقد شاهدنا ذلك بأنفسنا، لقد ذهبنا جميعا لزيارتك مرة أخرى اليوم.

ويغضب (سوكي) غضبا شديدا محاولا تبرئة نفسه ولكن دون جدوى ويتفق الأب مع أبنته على أن (كانا) هو الرجل اللائق الذي تتخذه زوجا لها، وتوضع الزينة ليوم العرس ويسخط كل من في القرية على (سوكي) إلى حد أنه كان يرحل إلى الشاطئ ليعمل عملا أكثر مشقة مما كان يفعل من قبل ليكسب قوته.

وفي كل يوم نقابل فيه إنسانا مشغولا بعمله ولا يتسع وقته لمساعدة غيره لابد أنه يذكر قصة (سوكي) وصيد السمك.. فليس كل من كان مشغولا عن الناس بعمله هو أكثرهم أداء له.