...

الطائر المصفر

 

 

إن للطيور الصغيرة _كصغار الناس_ طموحا وهي تسعى إلى تحقيقه في بعض الأحيان عن طريق الكفاية والاستحقاق، وفي البعض الأخر عن طريق الدهاء، زعموا أن طائرا صغيرا قد عقد العزم على ان يحقق غايته سواء عن طريق الخير أو الشر،         كان صوته خافتا نحيلا وكان يتوق فوق كل هذا إلى أن يتمكن من أن يجعل صفيره عاليا ولكن يستطع أن يجعل صوته الخافت أعلى مما هو الأن.

 

ويقول لنفسه:

 

  _ لو أنني ظفرت بشيء أصفر فيه فسوف أفعل ذلك، ثم راح في الغابة يتصيد بحثا عن شيء يجعل منه لنفسه صفيرا، ولكن لم يجد شيئا فدير خطة بالغة الدهاء، كان يعيش إلى جواره طائر كبير جميل يميل إلى أن يعامل غيره من الطيور في شيء من الازدراء.

 

وذات يوم يزور الطائر الصغير الطائر الكبير ويدور بينهما ما يبدو أن يكون نقاشا عارضا:

 

_لقد سمعت إن الديدان ستقل نوعا ما هذا الصيف.

 

_في الواقع إن هذا لا يعنيني.. إنني أستطيع أن أطير أميالا إذا ما دعت الضرورة، إنني لأتوقع أن أجد كثيرا منها.

 

_أشك في ذلك، أما أنا فلا يعنيني كذلك لأنني أستطيع أن أطير بدون طعام.

 

_ماذا تقصد من أنك تستطيع أن تطير دون طعام؟

 

_لقد كنت أدرب نفسي، وفي بعض الأحيان كنت لا أذوق الطعام أياما متتاليات، أعتقد أنني أستطيع ان اصوم أسابيع دون أن يصيبني شيء كثير من العناء.

 

_ها.. حسن.. إذا كنت أنت تستطيع ان تصوم أسبوع فإنني أستطيع أن اصوم أسبوعين.

 

_هل أنت راغب في مراهنتي على ذلك؟

 

_بالطبع أرغب.. عليك أن تمدني بأربع وعشرين من الديدان الكبير أن أنا كسبت الرهان.

 

_سوف أطير معك.. أؤكد تماما أنك لن تقوى على الصمود أسبوعين بدون طعام.

 

_آه.. سترى.. والأن ما هو الطريق لذلك؟

 

_إن السبيل القويم لذلك هو أن نحبس انفسنا كل في عشه، ولما كنت أصغر منك حجما فأفضل أن أقوم بذلك، سأقوم بالأعمال الأولية أولا، سوف أختم عليك في عشك تماما بحيث لا يرى منك سوى ثقب صغيرا لعينيك وسوف يكون في وسعك أن ترى أنني قد حبست نفسي في عشي وأن ترى انه ليس ثم تدليس، وبعدها تستطيع ان تضع على عينيك ما يعصبهما.

 

ويقبل الطائر الكبير الرأي في تحمس، لقد كان شديد التمسك برأيه وكان مقتنعا أن في وسعه أن يعمل ضعف ما يعمل غيره،

 

  ويقبع في عشه متلطفا بينما يغدو الطائر الصغير يبني حوله حائطا، ويلتف به الحائط من كل جانب إلا من فتحة صغيرة يستطيع منها أن يراقب الطائر الأخر.

 

ويواصل الطائر الصغير البناء حول نفسه حتى لم يعد يراه احد تماما وينزع الطائر الكبير قطعة الجبس من فوق عينيه ويستقر في مكانه صائما.

 

أما الطائر الصغير الماكر فقد أستطاع أن يحشر نفسه في أضيق مكان وان يترك في الواقع من حوله ثقبا يسمح له أن يخرج ويدخل ويحصل على طعامه دون أن ينتبه له الطائر الغبي الكبير لذلك.

 

ويصحو الطائر الصغير مبكرا وينفلت ليحصل على بعض الطعام ويعود حين تطلع الشمس التي لم يكن يراها كل منهما دائما، بل كانا يحسان دفئها ويسأل الطائر الصغير:

 

_كيف حالك؟

 

_جميل إنني لا أعباء بالجوع على الأقل _كيف حالك؟

 

_جميل أيضا، يقولها وهو يحرص على أن لا يبدو مقنعا.

 

وينقضي اليوم الثاني على نفس المنوال وإن كان تصريح الطائر الكبير بأن أمره على ما يرام قد شابه قليلا من التهجم. ويأتي اليوم الثالث ويتحقق الطائر الصغير من أن صوت ضحيته يجيء خافتا، وفي اليوم التالي يصبح صوته ضعيفا بشكل قاطع وينادي في يوه التالي مرتين قبل أن يتلقى ردا، ثم لا يسعه بعد ذلك أن يستجيب لأي نداء، ورغم هذا يواصل الطائر الصغير البقاء دفينا ثم يتسلل يجلب الطعام.

 

وتمر أيام ثلاثة بعد ذلك لا يستجيب الطائر الكبير للنداء فيذهب الطائر الصغير إليه ويفتح العش فإذا بالطائر الكبير ملقى بداخله هيكلا من العظام.

 

_مات من أيام مضت.. يا له من متباه.

 

ويلتقط الطائر الصغير عظمة فخذ الطائر الكبير ويضعها في منقاره ثم ينفخ فيخرج منها نغما جميلا.

 

_ها.. والأن في وسعي أن أصفر بأحسن قطعة فيه ويأخذ في الصفير وهو يطير مطوفا طوال اليوم محدثا طنينا مزعجا يصم الأذان، ويسبب هذا هرجا واضطرابا في الغابة، ذلك أن الطائر الصغير كان صغيرا نحيلا له ساقان كالعصى إلى حد جعل الضجيج الذي يحدثه يبدو مثار تعجب كثير، إن عصفور الكناري لا يسعه ان يغني بصوت أعلى منه، ويمضي الوقت بسبب هذا الصوت شيئا كثيرا من الازعاج ويعتزم طائر كبير من طيور الكناري وضع حد له ويقول آمرا:

 

_أعطني صفارتك هذه.

 

وينفش الطائر الصغير ريشه في غضب عظيم.

 

_لن اعطيكها.. لقد كلفني ذلك الذهاب آمادا بعيدة ولن أتنازل عنها.

 

_لا أظن أنك حصلت عليها من طريق الشرف ولكني لن أعباء بهذا.. اعطني إياها في الحال وإلا سيصيبك من ورائها الأذى.

 

ويضطر الطائر الصغير الذي لا يسعه الوقوف في وجه الكناري إلى أن يعطيه الصفارة ويطير بعيدا متوعدا إياه بالانتقام ..ويطير الكناري إلى منزله حاملا معه الصفارة ويقدمها لزوجته:

 

_إنني أريد منك أن تغني بهذه_ إنها ملك ذلك الطائر الأحمق الذي كان يرسل طنينا مزعجا في الأيام الأخيرة، سوف لن نردها إليه مهما كان الثمن، فإذا جاءك أحد ليستردها فعليك أن تكوني على حذر منه. 

 

وتقول أنثى الكناري:

 

_كيف أعرفه إن حام من حولي؟

 

_إنه صغير وله ساقان نحيلتان كالعصى لم نرى مثلهما من قبل نحولا.

 

_حسنا سوف أرقب هاتين الساقين.

 

وفي اليوم التالي يأتي الطائر الصغير النحيل حائما حول المكان بينما كانت أنثى الكناري تستريح في عشها فيقول لها:

 

_إنني جئت لأخذ صفارتي، إنني قد أقرضتها زوجك أمس لقد أخبرته أني سوف أعود بعد الظهيرة لأستردها.   

 

صحيح ما تقول؟.. من لعجيب أنه لم يخبرني بذلك.

 

 _أظنه قد نسي.. لا تهتمي بالأمر سوف أخذ الصفارة الآن .

 

وتهب انثى الكنار تنهشه.

 

_في الواقع لن تأخذها.. لقد سمعت عنك من زوجي كل شيء وكيف كنت مصدر ازعاج؟

 

_قد يكون ثم خطأ فيما تقولين، لم أكن لأفعل شيئا من هذا النوع، ربما يكون قد أختلط عليك الأمر بيني وبين غيري.

 

_لا..  لم يختلط على الأمر.. إنك لأنت الطائر الصغير ذو الساقين النحيلتين.. إنني لأعرفك حيثما تكون.. أذهب الأن فلن تأخذ الصفارة.

 

ويبتعد الطائر الصغير حانقا أشد الحنق ويجلس مطرقا يفكر في طريقة يسترد بها الصفارة فليس له من أحباب يقومون له بذلك لأن أحدا لا يحبه كثيرا، وهو لهذا يقرر اخفاء ساقيه ويحوم حول المكان يجمع شيئا من الريش الرقيق ويلصقه حول ساقيه النحيلتين ويضيف القليل منه إلى وجهه أيضا، ويعود إلى عش الكناري ويستكشف المكان بعناية فإذا به يجد انثى الكناري وحدها فينظر اليها في شجاعة ثم يقول بصوت خفيض:

 

_عمت مساء.. لقد سألني زوجك أن اتي له بتلك الصفارة التي عليها تحرصين.

 

وتحملق أنثى الكناري بشيء من الريبة في وجهه أولا ثم في ساقيه بعدئذ ولكنها تلحظ أن ساقيه تبدوان سميكتين يأخذها التردد وتقول في احتجاج رقيق:

 

_إن زوجي لم يقل لي شيئا من مجيئك للصفارة.

 

_أعرف ذلك.. لقد قابلني منذ برهة وأخبرني عن ذلك الازعاج الذي يحدثه الطائر الصغير المقلق بتلك الصفارة التي يلهو بها، لهذا فقد أستقر الأمر بيننا على أن افضل شيء يعمل هو ان ندفنها درءا للمتاعب.

 

_حسن.. أعتقد أنه راي سديد، إن ذلك سيوفر علي مؤونة المحافظة عليها طيلة الوقت.

 

وتعطيه الصفارة دون تردد.

 

ويعود الزوج بعد دقائق فتقول له:

 

_لقد أعطيت صديقك الصفارة.. هل قمت بدفنها في مكان أمين؟

 

 _بربك علام تتحدثين؟

 

وتقص عليه قصة الزائر، فيصيح:

 

_يا للعجب.. انني لم أرسل أحدا، لابد وانه ذلك الطائر الصغير الوقح، ألم اقل لك أن تكوني على حذر منه؟

 

وتولول الزوجة:

 

_لقد كنت على حذر منه لقد نظرت إلى ساقيه على وجه التخصص فرأيت أنهما غير نحيلتين على الأطلاق، لقد كانتا في الواقع سميكتين ومكسوتين بالريش.

 

_إنك غبية.

 

وينشب بينهما شجار يشتد فينقلب عراكا مريرا.. وبينما هما يتصالحان ويقفز كل منهما على الأخر إذ بهما يستمعان إلى صوت الصفارة يتردد من حولهما مدويا وأن الطائر الصغير الماكر يحوم مصفرا في عنف.

 

إن في هذه لعبرة.. ذلك أن المرء لا ينبغي أن يحكم بالظواهرز