23/09/2018
2112 مشاهدة
من التساؤلات المهمة كيف انتشر الإسلام في جنوب إفريقيا في ظل الاستعمار؟
عاش مسلموا جنوب إفريقيا في ظلِّ العداء للإسلام لدى المستعمرين البرتغاليِّين والهولنديِّين، أحوالا صعبة جدا، بل كانت اختبارا وتمحيصا لهم في ثباتهم وصبرهم على القمع وأعمال السخرة، والسخرية من معتقدهم وانتهاك حريَّاتهم؛ إذ أُعلن الحظر على الدين الإسلامي وعلى جميع مظاهره منذ اللحظات الأولى التي وطئت أقدام السُّجناء المسلمون الأوائل أرض مستوطنة الرَّجاء، فالعلماء والأمراء المنفيُّون أطلق عليهم في سجلاَّت السُّجون (bandieten) أي "مجرمون"، وشُرعت قوانين تجرِّم كلَّ نشاطٍ للمسلمين فقد أصدروا مرسومًا صارمًا يحظر أيَّ ممارسة علنيَّة لشعائر الإسلام، وكانت عقوبة الاعدام شنقا لمن يخالف ذلك ال، ثم تم تأُكِّيد التشريع بمراسيم أخرى ومناسبات مختلفة في العقود اللاَّحقة بالنصَّ على عقوبة الشَّنق،[1] أو مصادرة ممتلكات كلِّ من يقوم بنشاط الدعوِة بين السكان الأفريقيين أو بين المسيحيِّين، وكانت تهمة تحمل عنوان "مبشِّر محمَّدي" (Mahometaanese priesters)، من أبشع الجرائم وأكبر التُّهم هناك.
وفعلا طُبق هذا القانون بأشكال مختلفة فكان من أبشعها ما حدث في عام (1712م) على بحق رجل دين مسلم جاوي؛ حيث قُطع لسانُه أولا، ثم أُحرقوه حيًّا، عقابًا له على "تبشيره بين الكفرة وعلى فعلته الجهنميَّة".[2]
وبقي ذلك التشريع هذا ساريًا طوال قرن ونصف، حتى أُلغي في عام (1804م) مع تشريع قوانين وقيودٍ أخرى أقل وطأة كضرورة الحصول على موافقة لبناء المساجد، والمدارس الدينية، وإقامة التَّجمُّعات.
بالإضافة إلى ذلك، قام المستعمرون في خلال تلك الفترة بإجراءاتٍ وسياساتٍ كثيرة، من أجل قطع الطَّريق أمام أيِّ ظهور للإسلاميين، ومنعوا تأثيرهم في رأس الرَّجاء وفي جنوب إفريقيا، واستخدموا شتى الأساليب والوسائل كفتح الباب على مصراعَيه للحركات التّبشيرية بالتنصير، وتشجيع هجرات المسيحيِّين إلى المستوطنة ومنح إمتيازات لمن يترك الإسلام ويلتحق بالنصرانية، ودعم الوثنية بين المحليين. وفي الفقرات الآتية وقوفٌ عند بعض تلك الإجراءات ونتائجها.
أوَّلاً: سياسة الهجرات الجماعيَّة المسيحيَّة إلى رأس الرَّجاء:
رُغم حظر المفروض على الإسلام وعلى مظاهره بين المسلمين، فإنَّ الإسلام يتنامى بشكل مستمر وملحوظ ، خاصَّةً بين العبيد والمستضعفين، وهذا الأمر أزعج المستعمرون في رأس الرجاء؛ فأصدروا تشريعات عدَّة في عام (1767م، 1788م، 1792م) - عُمِّمت على شركات النخاسة وتجارة العبيد -، بإيقاف تهجير العبيد من الملايو إلى رأس الرَّجاء.[3] ومن أجل أن تكتمل حلقات هذه السِّياسة الهادفة إلى تغيب الإسلام وتغليب المسيحيَّة على الإسلام، شجَّع المستعمرون الهجرات الأوربيَّة الجماعيَّة إلى المستوطنة، حتى بلغت نسبة المسيحيِّين الوافدين إلى المستوطنة عام (1829م) 27% من إجماليِّ عدد المستوطنين، بينما لم تتجاوز نسبة ذلك لدى المسلمين 1%، ولكن بالرغم من هذه السياسة فإن نسبة المسلمين اخذت ترتفع حتى بلغت من مجموع السُّكان بلغت (57.67%).[4]
ثانيًا: إنشاء إرساليَّات خاصَّة لتنصير المسلمين.
من أهم الخطوات التي قام بها المستعمرون هو إقامة إرساليَّات خاصَّة لتنصير المسلمين ومنع إقبال "العبيد" على اعتناق الاسلام ونشر الفكر النصراني بشتى الوسائل منها مساعدة المحتاجين وإقامة المستشفيات وتقديم الطعام والشراب وفتح المدارس ...الخ، كل ذلك من أجل طمس الوجود الإسلاميِّ برأس الرجاء، وعرفت تلك الإرساليَّة باسم: (The Anglican Mission to Moslems)، إلا أن تلك الإرساليَّة مُنيت بفشلٍ مستمر طول قرن ونصف؛ لذلك حين نجح الأب بيك (Henricus Beck)، في تنصير "رجل مسلم"، وجَّهت إليه الإدارة الاستعماريَّة خطاب تقدير خاص بهذا "الإنجاز".[5]
فكانت النتيجة، اعتناق الكثر من العبيد الإسلام وبشكل كبير، على الرُّغم من الحظر المفروض على الدعاة، ففي عام (1829م) مثلاً، لاحظ المسؤول آنذاك عن تلك الإرساليَّة الأب ويليام إليوت أنَّ "نصف ملاجئ العبيد البالغة ثلاثة وثمانين في المستوطنة، هم محمديون".[6] فكان إخفاق هذه الإرساليَّات مزدوَجًا؛ إذ لم تفلح في تنصير المسلمين، ولم تنجح في الحدِّ من إقبال العبيد على الإسلام.
ثالثًا: مسخ الهويَّات.
من الإجراءات التي استخدموها هو إجبار المسلمين على تبنِّي أسماء برتغالية أو هولنديَّة، تغير لفظ أسمائهم القديمة وتهجيها بطريقة تبعدها عن أصولها الإسلاميَّة، وهذا الأثر واضح في أسماء معظم المسلمين بجنوب إفريقيا إلى اليوم، فالاسم أحمد مثلاً يُكتب ويُقرأ عندهم (Agmat)، وبدر الدين (Patrodien)، وعبد الحميد (Abdolgamiet)، بالإضافة إلى أسماء كثيرة هي أسماء هولنديَّة خالصة؛ لذلك لا عجب إذا تمسَّك المسلمون بشدَّة في جنوب إفريقيا حتى الآن بالعقيقة والأضاحي، وشاعت بينهم أسماء مشاهير المسلمين في عصر الصَّحوة بعد الخروج عن ربقة التَّفرقة العنصريَّة، ولكنا نلاحظ أن كثيرًا من الأسماء الممسوخة - خاصَّة أسماء العوائل- قد استمرت عبر الأجيال، وأصبح من الصَّعب التَّخلي عنها.
والحاصل، أنَّ جميع هذه السِّياسات والإجراءات عادتْ على المستعمر بالخيبة والفشل الذَّريع، واعترف كثيرٌ من السِّياسيِّين ورجال الدِّين المنصِّرين بهذا الفشل.
إنتشار الإسلام في رأس الرَّجاء.
بالرُّغم من الاضطهاد المتنوع وسياسات القمع المختلفة، فإنَّ المسلمين نجحوا في نشر الإسلام بالإضافة الى احتفاظ هؤلاء المبعَدين المنقطعين عن أصولهم بعقيدتهم وثقافتهم الإسلامية؛ إذ نجحوا في كسب أتباعٍ جُدد كُثر من العبيد والمحليِّين على السَّواء. فبينما بدأ الإسلام في رأس الرَّجاء ببضعة عبيد ومساجين من الملايو في أوَّل سفينة رست في رأس الرَّجاء عام (1652م)، بلغ عددهم ثلاثة آلاف مسلم في (عام1822م) أي بعد قرن ونصف تقريباً، وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي (1891م) بلغ تعدادهم (11.287) شخصًا، وتلك أرقامٌ لا يُستهانُ بها في ظلِّ الكثافة السُّكانيَّة آنذاك برأس الرَّجاء، وفي ظلِّ ما كان قائمًا من الحظر على الإسلام بأبشع وسائل القمع.
لم يأت هذا النَّجاح من فراغ، وإنَّما كان نتيجة وسائل وأسباب هادفة تبنَّاها االمسلمون الأوائل، أبرزها تحليهم بحسٍّ اجتماعيٍّ مرهف نحو المجتمع الجديد، وتوسَّعت رعايتهم لاستقطاب العبيد غير المسلمين، بإيوائهم وتقديم الملاذ المعنويِّ والماديِّ لهم، ورد الظلم عنهم، وعقد الزِّيجات بينهم، واتباع جنائزهم، واهتمامهم بتعليم أطفال العبيد المحرَّرين مبادئ القراءة والكتابة وتعاليم الإسلام وغرس المعتقدات الإسلامية المبتنية على الدليل القطعي، وغير ذلك .
وفي أواخر القرن الثَّامن عشر برزت طبقة وسطى من التَّجار المسلمين في رأس الرجاء، وضربت أروَع المثل في الرِّعاية الاجتماعيَّة، وخاصة في تحرير العبيد، - مسلمين وغير مسلمين -، وقد شهد بذلك أكثر المؤرِّخين، يقول أحد المبشرين في هذا الصَّدد: "ولست أدري أيوجد بين الملايو قانونٌ يُلزمهم بتحرير العبيد... يجب الاعتراف للملايو، أنَّهم في مواقف كثيرة، خلال البيوع العلنيَّة، يشترون العبيد المسنِّين، والضَّعفة، بصرف النَّظر عن دياناتهم، ثم يحرِّرونهم".[7] وممَّا يدعو إلى التَّأمُّل أنَّ أوَّل مسجد برأس الرَّجاء (عام 1798م) بُني على أرض وهبتها امرأةٌ من الإماء المحرَّرات، واسمها (viz Saartjie van de Kaap). وتوفيت عام (1847م).[8]
في مقابل ذلك يورد المؤرِّخون نموذجًا طريفًا لشخص من السُّود، يُدعى مارت (Maart van Mosambiek) وكان من ألمع العبيد ثقافةً، وأشدِّهم إخلاصًا في العمل التَّنصيريِّ بين المحليِّين بجمعية لندن التَّبشيرية (London Missionary Society)، ولكنَّ ذلك كلَّه لم يشفع له بأن يحظى بمجرَّد التَّعميد في الكنيسة، أو التَّحرر من العبوديَّة حتى وفاته.[9] ومنها أيضًا أنَّ عدد العبيد المسيحيِّين بلغ قرابة ألفين في أواخر عام 24 من المعمَّدين منهم كانوا (86) شخصاً فقط، وسبب ذلك - كما أوضحه الباحث (Bigge) أنَّ المستعمرين والمستوطنين، بما فيهم الكنيسة، كانوا ضدَّ "أيِّ إجراء يفضي إلى تضييق الفجوة بين الأسياد البيض وبين العبيد".[10].
إذنْ، لم يكن إسلام العبيد - في الواقع - إلاَّ نتيجة طبيعيَّة للرُّوح الأخويَّة والمعاملة الإنسانيَّة التي حفاهم بها المسلمون، ولم يكن هذا خاصًّا بالعبيد الذين وُصِفوا بأنَّهم "لا دين لهم"، وإنَّما شمل ذلك العبيد الذين كانوا قد أجبروا على اعتناق المسيحيَّة، فكانوا سرعان ما ينبذونها حالَ تحريرهم؛ ليعتنقوا الإسلام، وليصبحوا من رجاله الأوفياء إليه، وفي الختام أقول كم نحن بحاجة إلى تفعيل تلك القيم الإسلامية السامية، ــ التي ملؤها المحبة والتآخي والتسامح ومساعدة الآخرــ فيما بيننا لنرى الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
_____________________________________________________________________
[1] Selim Argun, The life and contribution of the Osmanli Scholar, Abu Bakar Afendi, 2000, p. 4
[2] Robert Shell, “Between Christ and Mohammed…”, in: Richard Elphick T. R. Davenport, Christianity in South Africa, (James Currey Publishers, 1997), p269.
[3] Bradlow, p20, in Shell, p42.
[4] Ebrahim Mahomed, Mahida. History of Muslims in South Africa: A Chronology, (SA: Arabic Study Circle, 1993).
[5] Richard Elphick, T. R. H. Davenport. Christianity in South Africa: a Political, Social, and Cultural History, (James Currey Publishers, 1997), p268.
[6] Robert Shell, op. cit. p269.
[7] Robert Shell, p271, and Davids, 1991, p32-36
[8] Madeleine, Barnard. Cape Town Stories, (Struik, 2007), p58-65.
[9] Robert Shell, p271. Karel, Schoeman. The Early Mission in South Africa, (Indian: Protea Book House, 2005), p57.
[10] John, Edwin Mason, Social death and resurrection: slavery and emancipation in South Africa, (University of Virginia Press, 2003), p183-184.